ليبيا- صراع الموقع والثروة، لعنة التاريخ وأطماع العصر

المؤلف: فرج كندي09.20.2025
ليبيا- صراع الموقع والثروة، لعنة التاريخ وأطماع العصر

لقد برهن التاريخ والواقع الملموس على أن الموقع الجغرافي المتميز والثروات النفطية الهائلة التي تزخر بها ليبيا، كان لهما الأثر الأكبر في سلسلة الأزمات المتتالية التي تعصف بها. هذه العوامل الحاسمة جعلت ليبيا محط أنظار المتنافسين ومطمعًا للغزاة على مر العصور، ولا يزال هذا الصراع يتجدد بصورة مستمرة عبر مختلف المراحل التاريخية.

فموقع ليبيا الإستراتيجي الفريد، منحها مكانة دولية مرموقة لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها. والاكتشافات المتوالية للثروات النفطية الضخمة والمعادن النفيسة الموجودة في باطن أراضيها، زادت من أهميتها الجيوسياسية والإستراتيجية بشكل ملحوظ؛ حيث أصبحت ليبيا تعتبر مصدرًا حيويًا للطاقة وثروة مالية هائلة، الأمر الذي ضاعف من قيمتها وجعلها هدفًا رئيسيًا لأطماع وصراعات القوى الدولية والإقليمية المتنافسة، سواء كان ذلك من أجل السيطرة على مصادر الطاقة، أو الاستحواذ على الثروة، أو بسط النفوذ، أو تحقيق هذه الأهداف الثلاثة مجتمعة.

الموقع الإستراتيجي

لقد تسبب الموقع الجغرافي المتميز لليبيا في نشوء الكثير من المشاكل والصعوبات على مدار تاريخها العريق والضارب في القدم؛ فهي تقع في قلب شمال أفريقيا على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط، ويحدها ست دول شقيقة هي: جمهورية مصر العربية، وجمهورية السودان، وجمهورية تشاد، وجمهورية النيجر، والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، والجمهورية التونسية.

يبلغ الطول الإجمالي للحدود الليبية البرية حوالي 4.348 كيلومترًا، موزعة على النحو التالي: مع مصر (1.115 كيلومترًا)، ومع تشاد (1.055 كيلومترًا)، ومع الجزائر (982 كيلومترًا)، ومع السودان (383 كيلومترًا)، ومع النيجر (354 كيلومترًا)، ومع تونس (459 كيلومترًا). بالإضافة إلى ذلك، يتميز الشريط الساحلي الليبي بامتداده على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط بمسافة تقدر بحوالي 1.770 كيلومترًا.

أما المساحة الإجمالية للبلاد فتقدر بحوالي 1.759.540 كيلومترًا مربعًا. مع كثافة سكانية منخفضة للغاية، حيث بلغ عدد السكان في أحدث الإحصائيات ما يقارب سبعة ملايين نسمة على أقصى تقدير.

وبسبب هذا الموقع الجغرافي الإستراتيجي، تعرضت ليبيا للغزو والاحتلال منذ أقدم العصور، ولا تزال حتى يومنا هذا هدفًا ومسرحًا للصراعات الجيوسياسية الدولية المحتدمة، الأمر الذي يمثل جوهر الأزمة الراهنة التي تعيشها البلاد، والمتمثلة في النزاع المستمر على النفوذ العسكري والسياسي على هذه البقعة الهامة من العالم.

جدير بالذكر أن أغلب الغزوات التي تعرضت لها ليبيا كانت تأتي من جهة الشمال، وذلك منذ قدوم شعوب البحر الأوروبية الغازية في الألف الأول قبل الميلاد.

وفي حقبة العصور الكلاسيكية، استوطن الفينيقيون الجزء الغربي من ليبيا في القرن الثامن قبل الميلاد، وقاموا بتأسيس المدن الثلاث الشهيرة: طرابلس ولبدة وصبراتة. كما أسس الإغريق المدن الخمس في الجزء الشرقي من البلاد سنة 631 قبل الميلاد، وهي: قورينا (شحات) وطلميثة وتوكرة وبنغازي وسوسة.

ثم تبعهم الرومان في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، وذلك بعد انتصاراتهم الحاسمة على الفينيقيين واستيلاء روما على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك ليبيا، واستمر هذا الوضع حتى دخول طلائع الفتح الإسلامي من البوابة الشرقية لليبيا – برقة – سنة (21 هجرية / 641 ميلادية)، ثم اتجهت هذه الفتوحات جنوبًا نحو فزان وغربًا نحو طرابلس.

استمرت ليبيا تحت السيادة الإسلامية لعدة قرون متتالية، مع تعرض سواحلها من حين لآخر لهجمات البيزنطيين التي كانت سرعان ما تتلاشى وتندحر أمام قوة المسلمين المدافعين عن ثغور الإسلام.

إلى أن حدثت أولى الاختراقات بقيام "الجنويين" بالاستيلاء على مدينة طرابلس حين اجتاحوها سنة (1354 ميلادية) وعاثوا فيها فسادًا ونهبًا وسلبًا، ثم انسحبوا منها في مقابل الحصول على فدية مالية كبيرة.

وفي عام (1510)، تعرضت طرابلس لغزو الإسبان بقيادة "بيدرو نافارو"، ثم تنازلوا عنها بل وقاموا بمنحها لفرسان القديس يوحنا المالطيين سنة (1535)، الذين أخرجهم الأتراك العثمانيون سنة (1551) بناءً على طلب من وفد من أهالي ليبيا الذين استنجدوا بالدولة العثمانية لمساعدتهم في طرد فرسان مالطا. وبذلك دخلت ليبيا تحت الحكم العثماني بعد ذلك التاريخ.

وخلال فترة حكم الدولة القرمانلية (1711-1835) في ليبيا، التي كانت تتبع الدولة العثمانية اسميًا فقط، حدث صدام بحري قوي مع الولايات المتحدة الأميركية، تمكنت خلاله البحرية الليبية من أسر البارجة الأميركية "فيلادلفيا" بالقرب من شاطئ مدينة طرابلس، وردت البحرية الأميركية بقصف مدينة درنة الواقعة في الشرق. عُرفت هذه الأحداث باسم حرب السنوات الأربع (1801-1804)، ولم تتمكن خلالها القوات الأميركية من النزول إلى الأراضي الليبية، واكتفت بإحراق السفينة "فيلادلفيا" في ميناء طرابلس.

وفي عام 1911، دخلت ليبيا منعطفًا حاسمًا وخطيرًا هز أركانها من جهة البحر، متمثلًا في جحافل الغزو الإيطالي القادمة بعقيدة صليبية تسبقها أحقاد دفينة، تقوم على الاعتقاد بأن ليبيا هي أرض كانت تحت حكم أجدادهم الرومان، وأن المسلمين قد طردوهم منها، وأنه من حقهم استعادتها والعودة إليها. ونتيجة لذلك، شن الإيطاليون حرب إبادة جماعية على الشعب الليبي استمرت دون توقف إلا لفترة وجيزة بعد أسر وشنق شيخ الشهداء عمر المختار سنة (1931)، ثم خرجوا يجرون أذيال الهزيمة أثناء الحرب العالمية الثانية عام (1942).

ومع دخول قوات الحلفاء مصحوبة بالمجاهدين الليبيين الذين شكلوا جيش التحرير بقيادة الأمير إدريس السنوسي سنة (1942)، تمكن الأمير إدريس السنوسي من الحصول على وعد قاطع من بريطانيا بعدم السماح بعودة الإيطاليين إلى برقة، التي كانت تمثل معقل نفوذه وموطن ولاء قبائلها المطلق للحركة السنوسية.

وبعد أن تنبه القادة الطرابلسيون إلى الصراع المحتدم بين الدول المنتصرة في الحرب على الانفراد بموقع ليبيا الإستراتيجي المتميز، وإلى الأحلام الإيطالية بالعودة إلى إقليم طرابلس على الأقل، فيما عُرف باتفاق (بيفن – سيفورزا) بين وزيري خارجية إيطاليا وبريطانيا، وإلى سعي الاتحاد السوفياتي الحثيث للحصول على موطئ قدم على ساحل البحر الأبيض المتوسط يتيح له الاقتراب من خصمه اللدود المتمثل في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، كان ذلك دافعًا لهم للتوجه إلى الأمير إدريس وعرض فكرة توحيد مطالب الليبيين في الوحدة والاستقلال في أروقة الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1945).

وقد أثمر هذا الموقف الموحد والإصرار عليه من خلال تشكيل وفد موحد ومقابلة لجنة تقصي الحقائق، واتفاق جميع الليبيين على المطالبة بالاستقلال والوحدة بين الأقاليم الثلاثة: برقة وطرابلس وفزان، عن نجاح الليبيين في انتزاع قرار استقلال ليبيا من هيئة الأمم المتحدة تحت اسم المملكة الليبية المتحدة سنة (1951).

لعنة الثروة

لقد خرجت الدولة الليبية الوليدة من بين براثن الدول المتصارعة والمتناحرة على الاستيلاء عليها والسيطرة على موقعها الإستراتيجي المتميز عام (1951) في ظل ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة.

فالبلاد كانت مدمرة بالكامل نتيجة تحويلها إلى ساحة عمليات عسكرية ضارية بين دول الحلفاء ودول المحور، بالإضافة إلى حداثة العهد باستعمار استيطاني قمعي تمثل في المستعمر الإيطالي الذي عمل على قتل وتهجير الليبيين، وتبني مشروع يهدف إلى إخلاء ليبيا من شعبها عن طريق ثالوث الفقر والجهل والمرض، بعد أن سبقه مشروع القتل والتهجير والإبادة الجماعية في المعتقلات. كما كانت البلاد تعاني من افتقار شديد لمقومات إقامة الدولة بسبب انعدام وجود موارد مالية كافية.

وفي محاولة لتجاوز هذه الصعوبات، سعى الليبيون إلى الاستعانة بإخوانهم العرب من الدول التي تمتلك موارد مالية، وقام الملك إدريس بتشكيل وفد رسمي زار مصر والعراق والسعودية، إلا أن هذه المساعي لم تحقق النجاح المنشود. ولكن في نهاية المطاف، تمكن الساسة الليبيون المحنكون من إيجاد مخرج سريع لهذه الأزمة عن طريق تأجير قواعد عسكرية لبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، مما حقق لهم ميزانية للدولة في مناورة سياسية ذكية، من خلال الإيحاء بأنه في حال عدم التوصل إلى اتفاق مع أميركا وبريطانيا، فإن الاتحاد السوفياتي على استعداد تام للاتفاق بالمبلغ الذي تحدده ليبيا. وبذلك ضمنت الحكومة الليبية جزءًا كبيرًا من ميزانية الدولة، بالإضافة إلى المعونات المالية التي تعهدت بها الأمم المتحدة للدولة الليبية الناشئة.

وبعد مرور عشر سنوات فقط على الاستقلال، تم اكتشاف النفط بكميات تجارية كبيرة، وسرعان ما بدأت عمليات تصدير النفط، وتدفقت الأموال على خزينة الدولة، مما سمح للحكومات المتعاقبة بالشروع في إقامة المشروعات التنموية الضخمة التي بدأت نتائجها تعود بالنفع على عموم الليبيين في جميع المجالات، وخاصة في قطاعات الصحة والتعليم وتحسين المستوى المعيشي للمواطن الليبي.

إلا أن هذه المشروعات التنموية الطموحة والنهضة المتسارعة التي تمثلت في طفرة واسعة وسريعة انعكست بشكل إيجابي على حياة الليبيين، كانت لها قوى أخرى متربصة بها، اتخذت قرارًا حاسمًا بمنع نهضة ليبيا وعدم السماح للشعب الليبي بالاستفادة من ثرواته الطبيعية.

ونتيجة للصراع المحتدم على الموقع والثروة معًا بين القوى الإقليمية والدولية، تفاجأ الشعب الليبي بانقلاب عسكري قاده بعض الضباط صغار الرتب في الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1969، والذي أطاح بنظام الحكم الملكي، واستأثر المجلس العسكري بالسلطة لفترة من الزمن، إلى أن تمكن معمر القذافي من التخلص من المجلس العسكري وانفراده بالحكم، وجلس على بحيرة من النفط تدر عليه ثروات طائلة يتصرف فيها وحده كيفما يشاء. ونتيجة لذلك، قام بتعطيل القوانين وتجميد حركة التنمية والعبث بمقدرات البلاد وتسخيرها في دعم المنظمات الأيديولوجية والحركات الانقلابية، وقمع الحريات والتنكيل بالمعارضين، وتدهورت الخدمات الصحية وانهار التعليم، ووصل بالبلاد إلى حالة من الانسداد السياسي والقمع الفكري، مع تبعية تامة للمعسكر الشرقي والاعتداء على دول الجوار والدخول في حروب عبثية في أوغندا ومع مصر وحرب تشاد التي ضاع فيها الشباب الليبي بين قتيل وأسير، وأضاع ثروة البلاد التي كان يجب أن توظف في خدمة المواطن ورفع مستوى الوطن! وهكذا تحولت الثروة إلى نقمة على الشعب الليبي بدلًا من أن تكون نعمة.

استمر القذافي في حكم ليبيا لمدة اثنتين وأربعين سنة حكمًا فرديًا قمعيًا بدد خلالها ثروة البلاد وأفقرها، وقمع الحريات ودمر بنية الدولة التحتية، مما أثار حفيظة الشعب الليبي الذي خرج في ثورة عارمة في 17 فبراير/ شباط 2011، أطاحت بنظام حكم القذافي وأتت عليه من القواعد، مع التطلع إلى بناء دولة المؤسسات والقانون: وهو الشعار الذي رفعه الثوار أثناء الثورة.

وبعد القضاء على نظام القذافي، لم تسمح القوى الدولية والإقليمية للدولة الليبية بالنهوض من جديد؛ فكما ابتُليت ليبيا بانقلاب سبتمبر/ أيلول، وحاولت هذه القوى أن تحرمها من الاستقلال قبل عام 1951، كانت هذه القوى الطامعة في ليبيا موقعًا وثروة تتربص بالثورة الليبية؛ فتدخلت في الشأن الليبي في اصطفافات متعددة ومتعارضة المصالح، حيث يسعى كل طرف إلى تحقيق مصالحه وأجنداته الخاصة على حساب مصلحة الوطن العليا. مما جعل ليبيا ممزقة ومقطعة الأوصال تنهشها القوى المتصارعة للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المكاسب الجغرافية على الأرض، وذلك من خلال إنزال قواتها العسكرية التي انتهكت سيادتها الوطنية واستحوذت على ثرواتها من خلال تهريب النفط والاستيلاء على منابعه وبيعه خارج النطاق الرسمي لتعزيز وجودها ولدعم حلفائها المحليين الذين يخدمون مصالحهم الخاصة دون أدنى اعتبار لمصلحة الوطن أو المواطن الليبي.

لقد عانت ليبيا على مر تاريخها الطويل من موقعها الجغرافي الإستراتيجي المتميز ودفعت أثمانًا باهظة نتيجة لذلك، ثم زاد الطين بلة اكتشاف ثرواتها النفطية التي ضاعفت من الصراع عليها بين القوى الدولية والإقليمية، وأشعلت نار الفتنة والصراع بين أبنائها، وأدخلتهم في حرب أهلية طاحنة على السلطة والنفوذ أدت إلى مقتل الآلاف من شبابها وتدمير المدن وتمزيق نسيجها الاجتماعي وإدخالها في دوامة صراع دولي محلي لا يبدو أن هناك أملًا في الخروج منها في المستقبل القريب، وحتى إذا خفت حدة الحرب قليلًا، إلا أن فتيلها لم ينطفئ بعد وقد يشتعل في أي وقت من الأوقات.

وما زالت ليبيا تعاني الأمرين بسبب امتلاكها لأفضل المقومات الجغرافية وما تحتويه أراضيها من ثروات طبيعية عظيمة جلبت عليها أطماع المتكالبين عليها، ولا يوجد مخرج لها من هذه الأزمة إلا من خلال توحد أبنائها وتقديم مصلحة الوطن على المصالح الفردية الضيقة والجهوية المقيتة، والتي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى ضياع ليبيا أو تغيير ملامحها الجغرافية والسياسية والاجتماعية بشكل كامل وفقًا لمخططات الطامعين فيها، وهم كثر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة